اعتاد الخطاب الرسمي والدبلوماسي أن يقدم فرنسا كحليف استراتيجي للمغرب، ويقدم المغرب كشريك مهم لباريس اقتصاديا وسياسيا وأمنيا. وهذا المعطى ليس مجانبا للصواب، بل هو جزء من الحقيقة التاريخية التي يعرفها كل المغاربة صغيرهم وكبيرهم. منذ أن استقل المغرب عن فرنسا اختار أن يحافظ على الصداقة مع البلد الذي دخل مستعمرا ليخرج صديقا. ترك المغاربة وراء ظهورهم تاريخا طويلا من الآلام والدماء والمجازر، وفضلوا أن ينظروا جهة المستقبل. سرعان ما تعمقت الصداقة المغربية الفرنسية وتحولت إلى شراكة شاملة لمختلف المجالات والمصالح المتبادلة.
صحيح أن فرنسا كانت تستفيد أكثر من المغرب من هذه الشراكة بحكم أنها وجدت مصدرا للمادة الأولية وسوقا لتصريف السلع إلا أن المغرب كان دائما يراهن على لحظة مستقبلية ستتغير فيها الموازين ويتحول نحو الندية والتفاوض من موقع قوة. وهذه اللحظة هي التي نعيشها اليوم، وسط مؤامرة “بيغاسوس” المصطنعة، التي أعادت للإعلام الفرنسي، وصحيفة لوموند، على الخصوص عاداتها القديمة في استفزاز المغرب وابتزاز سلطاته بملفات حقوق الإنسان التي كانت ولا تزال دائما مطية الأنظمة الغربية من أجل انتزاع المزيد والمزيد. ولأن المغرب لم يكشف عورته في أعقاب ثورات الربيع العربي واستطاع الحفاظ على تماسك مؤسساته وانسجام مكوناته السياسية والاجتماعية، فقد ظل إلى حد بعيد رقما صعبا لم يعد قابلا للابتزاز.
نجح الأمر في الجزائر وتونس وليبيا ومصر ودول الخليج العربي وسوريا ولبنان وغيرها من دول المنطقة. كل هذه الأنظمة اليوم أصبحت بيوت عنكبوت يسهل التلاعب بها، واستهدافها وابتزازها مقابل صادرات السلاح والقمح وواردات الغاز والبترول، وعقود الصفقات العمومية لبناء المنشآت وغيرها. ولأن ثورة هذه البلدان كانت للأسف صاخبة أكثر من اللازم، تثير الثورة الهادئة التي تجري في المغرب منذ سنوات غيرة الأصدقاء قبل الأعداء. غيرة فرنسا قبل غيرها من خصوم الوحدة الترابية وأعداء الاستقرار المغربي المثير للاستغراب في محيط ملتهب كهذا الذي نحيا فيه. إثارة اسم المغرب في ملف فارغ مثل ملف “بيغاسوس” من طرف مؤسسات إعلامية تاريخها مرتبط بإدارة الاستخبارات الفرنسية مثل لوموند لا يمكن أن يكون مجرد خطأ أو تعبيرا عن نوايا حسنة للدفاع عن حقوق الإنسان وحريات الصحافة.
المؤسسات الإعلامية الملتئمة في ائتلاف “فوربيدن ستوريز” جلها يمتلك رصيدا مهنيا كبيرا، ولها طواقم وإدارات تحرير من المستوى المهني العالي، ومن المستغرب جدا أن ترتكب خطأ كهذا الذي ارتكبته بإدراج أسماء بعض الدول في قائمة الجاسوسية المزعومة دون أن تستند إلى أدلة قطعية تقنية وعلمية لا يمكن مجادلتها. إدارة لوموند على سبيل المثال أول من يعلم أن نشر مقال بمعطيات غير مؤكدة يعني مواجهة المتابعة القضائية وهو أمر سيكلفها الكثير من مصداقيتها على الخصوص، ناهيك عن العقوبات المالية التي قد تترتب عنها. هذا يعني أن الهدف المطلوب ربما يستحق كل هذه التضحية المهنية.
لكن ما هو هذا الهدف؟ إنه تلويث سمعة بلد صاعد مثل المغرب، يفرض نفسه إقليميا وقاريا، وينافس الوجود الفرنسي في المنطقة، وأصبح يتفاوض في الوقت الذي أصبح غيره من البلدان يسمع وينفذ. الهدف هو تركيع هذه الثورة الهادئة التي تجري في المغرب، ومكنته اليوم من مواجهة زمرة الأنظمة الاستعمارية كإسبانيا وألمانيا دون أن يطلب الدعم أو المساعدة من أي طرف كان. هل تريد فرنسا من المغرب أن يتوسل لها من أجل دعمه في مواجهة مدريد وبرلين؟ لم يعد المغرب مستعدا للتنازل عن كرامته وكبريائه لأي كان، مهما كان صديقا أو رفيقا من رفقاء التاريخ. وما يجري اليوم من رد قوي سواء من السلطات الرسمية ممثلة في وزارة الشؤون الخارجية أو من الفعاليات الشعبية والمدنية هو أكبر دليل على الوعي بأهمية هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها، والتي لن تقل في نظرنا أهمية عن لحظة تاريخية أخرى عاشها آباؤنا وأجدادنا في 18 نونبر 1956. نعم إننا نعيش الاستقلال الجديد.