لم يمض على استقبال الملك محمد السادس لرئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي إلا يوم واحد حتى جاءت التعليمات الملكية واضحة من أجل فتح النقاش العمومي الواسع وإطلاع المواطنين وعموم الجمهور على تفاصيل هذا المشروع الكبير، وهذا التقرير الاستثنائي الذي يعتبر وثيقة تاريخية سيكون لها ما بعدها. تفاعلت الصحف والمواقع الإلكترونية ومختلف المنابر الإعلامية بسرعة، وبدأت التقارير الإخبارية والمقالات التحليلية والحوارات الصحفية تواكب هذا الورش، وتحاول تسليط الضوء على كل تفاصيل التقرير الجديد الذي جاء غنيا بالمعطيات والمقترحات والتوصيات. لكن الإعلام العمومي التلفزيوني أخلف مرة أخرى موعده مع التاريخ.
ففي الوقت الذي كان فيه من المنتظر أن يتم فيه تعبئة خطة تواصلية مهنية وواضحة من أجل فتح هذا النقاش وفسح المجال أمام الخبراء من أجل التعريف بالتقرير وبمضامينه، جاءت مقاربة قنوات القطب العمومي باهتة وسطحية وخالية من أي ميل نوع التبئير والتركيز على هذا الملف وإعطائه القيمة الإعلامية التي يستحقها. لقد ظهر هذا النوع من الاستهتار جليا عندما برمجت القناة الأولى على سبيل المثال حلقة جديدة لبرنامج “قضايا وآراء” أمس الثلاثاء في ساعة متأخرة جدا من الليل يحضرها عضوان في اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي لمناقشة وتحليل الخطة التنموية التي ستحدد مستقبل البلاد في الخمسة عشر عاما المقبلة. ما الذي يمكن أن يضيفه برنامج في ذلك التوقيت الميت للمشاهد المغربي في موضوع هام وبهذه الحساسية الكبرى؟
لقد كان أولى بالقناة الأولى وهي تبرمج حلقة “قضايا وآراء” الذي يعد واحدا من البرامج الحوارية النادرة في التلفزيون، وتستدعي لذلك عضوين من أعضاء اللجنة، أن تقدم برنامجها بإشهار مسبق واختيار توقيت من أوقات الذروة التي يشاهد فيها المغاربة عادة القنوات العمومية، خصوصا أن البرنامج الذي احتل الحيز الزمني الذي سبق الحلقة المذكورة، لا يعدو أن يكون حلقة جديدة من مسلسل تلفزيوني قديم ومكرور تمت إعادة برمجته من جديد. إن هذا التخطيط البرامجي الغرائبي لا يمكن إلا أن يؤكد كل الأقاويل وبعض الآراء التي تروج حول وجود قوى وتيارات لا يهمها أن تبرز خطة النموذج التنموي إلى الوجود، أو يسلط الضوء على الجهد الكبير الذي تم بذله من أجل الخروج بها إلى حيز الوجود.
قد نختلف جميعا مع بضع مضامين هذا النموذج التنموي أو مع طرق تنزيله المحتملة لكن آخر من يمكنه أن يختلف مع ذلك هو الإعلام العمومي السمعي البصري الذي يفترض أن مهمته الأولى هي الدفاع عن الاختيارات الرسمية والتعريف بها وتقديمها للجمهور بشكل مهني وباختيار أفضل الأوقات المؤثرة التي تتميز بنسب عالية من المشاهدة. لقد بدا بث حلقة برنامج “قضايا وآراء” بالأمس في ذلك الوقت المتأخر وكأنه عمل يُقصد من ورائه التعتيم على تقرير لجنة النموذج التنموي، في الوقت الذي تبذل فيه مختلف المؤسسات والجهات الرسمية جهودا كبيرة للتجاوب مع مطلب الحملة التواصلية الناجعة والفعالة.
“ما هكذا تورد الإبل يا سعد” نقولها للمدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، ما هكذا يتم تثمين منتوج فكري وعلمي يُفترض أن يرسم خارطة الطريق لمستقبل التنمية في المغرب. لقد كان من الأولى إلى جانب برنامج “قضايا وآراء” والنشرات الإخبارية، أن يتم برمجة أمسيات تلفزيونية خاصة يحضرها ما يكفي من الخبراء والسياسيين ونشطاء المجتمع المدني وأعضاء اللجنة لتدشين ذلك النقاش العمومي الذي لا يزال الجمهور ينتظره، بما يعنيه ذلك من ترسيخ لإطار الثقة والمصداقية لدى الجمهور، المتعطش لمعرفة ما يمكن أن تمثله هذه الوثيقة من تأثير على مستقبله وانتظاراته الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.